لتوحيد الأحدي
لما كان معنى التوحيد الأحدي يتلخّص بنفي التركيب عن الحقّ سبحانه وإثبات بساطته، فسيعرض البحث ضروب التركيب، ثم ينتقل إلى طبيعة الأدلة التي تُساق لإثبات البساطة، بادئاً بالدليل العقلي حيث انتخب تقريرين لهذا الدليل، ليتحوّل بعدها إلى الدليل النقلي بوجهيه القرآني والحديثي، ثم يلبث في نهاية المطاف مع عدد من النتائج المترتبة على مبدأ التوحيد الأحدي.
1 ـ ضروب التركيب
عندما نرجع إلى نصوص الأعلام في الكلام والفلسفة نجدهم يذكرون أقساماً متعدّدة للتركيب، منها التركيب من المادّة والصورة الخارجية، والتركيب من الأجزاء المقدارية، والتركيب من المادّة والصورة الذهنية، والتركيب من الجنس والفصل، والتركيب من الماهية والوجود، والتركيب من الوجدان والفقدان (1).
ـــــــــــ
(1) توفّر على ذكر هذه الضروب الستّة للتركيب الشيخ جوادي آملي في شرحه للجزء السادس من الأسفار. يُنظر: شرح الحكمة المتعالية للأسفار العقلية الأربعة (بالفارسية) آية الله عبد الله جوادي آملي، ج2، ص220.
صفحة 88
ولكن لما كان استيفاء النظر في تمام هذه الأقسام يُدخل البحث في لجّة المصطلحات الفلسفية والكلامية، وهذا خارج عن مستوى البحث وغرضه، فستتمّ الإشارة إلى بعض أقسام التركيب ممّا يحقّق الغاية المنشودة الماثلة في نفي التركيب وإثبات بساطة الحقّ سبحانه. سنختار التركيب الخارجي الذي يُعدّ من أهمّ أقسام التركيب، بادئين ببيان المراد منه من خلال أمثلة عرفية محسوسة.
عند تحليل الماء لمعرفة عناصره نجده مركّباً من مادّتي الأوكسجين والهيدروجين، وكذلك الحال بالنسبة لأيّ مركّب كيميائي آخر. هذه الحالة هي التي يُطلَق عليها التركيب الخارجي، حيث ينطوي الشيء على التعدّد في الواقع الخارجي.
من أمثلة التركيب الخارجي من حيث المثال العرفيّ اللون على الجدار، إذ هو يتألّف من موصوف هو الجسم، ومن صفة له غير الجدار هي البياض.
ثمَّ سنخ آخر من التركيب يُطلَق عليه التركيب العقلي. في هذا الضرب من التركيب ليس هناك اثنينية في الواقع الخارجي كما عليه الحال في التركيب الخارجي، وإنّما يتميّز التركيب بحسب التحليل العقلي وتبعاً لمختبر الذهن لا المختبر الكيميائي.
مثاله «الإنسان» كمحمّد وعلي، فهذا الإنسان يشير في واقعه الخارجي إلى حقيقة واحدة، بيدَ أنّ هذه الحقيقة عندما تأتي إلى الذهن يمارس عليها العقل عملية تحليل وتجزئة، فيحدّد العناصر المشتركة التي تجمعه مع موجودات أخرى ليميّزها عمّا يختصّ به هذا الموجود.
فهذا الإنسان الخارجي الذي هو محمد مثلاً، يتألّف من جسم، ولكن الجسمية ليست خاصّة به بل هي داخلة في الموجودات الأخرى. هو يتّصف
صفحة 89
بالنمو والحركة بيدَ أنّ هذين الاثنين لا يختصّان به بل يدخلان في نطاق العناصر المشتركة التي تجمعه مع الموجودات الأخرى.
وفي التحليل العقلي ذاته يرسو الذهن على مواصفات تميّز هذا الإنسان عن غيره ويختصّ بها دون بقيّة الموجودات. فبهذه المواصفات يتميّز هذا الإنسان عن باقي أفراد النوع، وعن بقيّة الأنواع التي تدخل تحت جنس واحد.
عندما ننظر إلى محمد وعلي فهذان فردان، ولكنّهما يدخلان تحت حقيقة واحدة يعبَّر عنها بالإنسان، فالإنسان نوع وهذان فردان لذلك النوع. أمّا إذا وضعنا اليد على الإنسان بمختلف أفراده وأصنافه وطبقاته، ووضعنا أيدينا على الغنم فنجد أنّ هذين النوعين مشتركان في حقيقة واحدة، هي التي يعبَّر عنها اصطلاحاً بـ «الجنس». فالجنس هو الجهة المشتركة بين الإنسانية والغنمية في هذا المثال.
أمّا «الفصل» فيعبِّر عن جهة الاختصاص والتميّز، لذلك عندما نقول إنّ الإنسان حيوان ناطق، فإنّ الحيوانية هي الجنس والناطقية هي الفصل.
ما يلحظ في هذا النوع من التركيب هو عدم وجود اثنينية في الخارج كما كان الحال في التركيب الخارجي الذي مثّلنا له بالجدار والبياض، أو كما هو الحال في المركبات الكيميائية والعناصر المعدنية وغير ذلك من المركبات المتعدّدة خارجياً، إنما العقل هو الذي استطاع أن يحلّل هذا الشيء إلى جنس وفصل.
من الأمثلة الأخرى على هذا النمط من التحليل ما يقوم به العقل من تجزئة الشيء الخارجي إلى حيثية يعبَّر عنها بالوجود، وحيثية أخرى يعبَّر عنها بالماهية. نظير أن نقول: «الإنسان موجود»، و«السماء موجودة»، و«الأرض
صفحة 90
موجودة». فالوجود هنا محمول عليها جميعاً، وله واقعية، وهذا ما يعبِّر عن جهة الاشتراك بين هذه الموجودات جميعاً. ولكن في مقابل العنصر المشترك الذي يمثّله الوجود هناك جهة اختصاص، فهذا إنسان وذاك بقر، وهذه أرض وتلك سماء وهكذا.
وبهذا المثال يتّضح أنّ الموجودات الخارجية تتميّز ببعدين: مشترك ومختصّ، يعبّر عن العنصر المشترك بالوجود، وعن المختصّ بالماهية.
بيدَ أنّ هذا التحليل عقليّ، إذ ليس أمامنا في الواقع الخارجي إلاّ هذا الإنسان، ولا يتجزّأ الإنسان خارجياً إلى إنسان ووجود، بل وجوده وإنسانيّته في شيء واحد، وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمثلة الأخرى.
على المنوال ذاته الذي يكشف عن ضرب آخر من ضروب التحليل العقلي, ما يقوم به الذهن في وصف الكمال حينما يجزّئ حال زيد ـ مثلاً ـ وأنّه واجد بعض الكمالات وفاقد لبعضها الآخر. فمثل هذا الوصف يعبِّر عن زيد وكأنّه مركّب من وجدان بعض الأشياء وفقدان بعضها الآخر، إذ له ـ مثلاً ـ درجة من العلم وليس له درجات أخرى منه، ومن ثَمَّ فهو عالم بما يعلم، وجاهل بما يجهل؛ أي له درجة من الكمال ودرجة من النقصان، فهو إذن مركّب من وجدان كمال وفقدان كمال آخر.
هذا أيضاً ضرب من التركيب، وهناك أقسام أخرى لا مجال لاستعراضها في هذه الوجيزة.
في ضوء هذه المقدّمة عن التركيب سيكون السؤال: هل الله سبحانه مركّب تركيباً خارجياً على نحو ما عليه العناصر المعدنية والمركبات الكيميائية؟ أم هل هو مركّب ذهني بحسب التحليل العقلي؛ كأن يكون مركّباً من جنس وفصل، أو من ماهية ووجود، أو من وجدان وفقدان؟
ـــــــــــــــــــــــــ
صفحة 91
مهمّة التوحيد الأحدي أن يثبت بساطة الحقّ سبحانه وأنّه غير مركب لا على نحو التركيب الخارجي ولا على نحو التركيب الناتج عن التحليل الذهني والتجزئة العقلية.
2ـ الدليل العقلي
بشأن طبيعة الأدلّة التي يمكن إقامتها والاستدلال بها لإثبات هذه الدعوى، نواجه في هذا البحث مدىً استدلالياً مفتوحاً، إذ يمكن أن نمارس الاستدلال العقلي لإثبات المطلوب، كما يمكن أن نستلهم البرهان على بطلان التركيب من الأدلّة النقلية الواردة في القرآن وفيما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام من روايات في هذا المجال.
أحسب أنّ الدليل العقلي من الواضحات، وسنعرض له من خلال وجهين:
الوجه الأوّل: ويتوقّف على بيان مقدّمة فحواها أنّ كلّ مركّب يحتاج في وجوده إلى وجود أجزائه، فما لم تتحقّق تلك الأجزاء لا يمكن أن يوجَد. على سبيل المثال يتألّف الماء ـ كمركّب ـ من الأوكسجين والهيدروجين، فلكي يوجد الماء لابدّ من وجود هذين العنصرين، وإلاّ لا يتحقّق وجود الماء. وبذلك يحتاج هذا المركب في وجوده إلى هذين العنصرين.
وحاجة كلّ مركب إلى أجزائه التي يتركّب منها هي قاعدة عقلية عامّة.
ننتقل الآن إلى واجب الوجود سبحانه، فحيث ينصّ القانون العقلي على حاجة كلّ مركب إلى أجزائه، فقد سقط الوجوب عنه بثبوت الاحتياج إذا ما افترضناه مركّباً، لأنّ الاحتياج علامة الفقر، والفقر لا ينسجم مع الوجوب بالذات.
بتعبير آخر: إنّ الفقير هو المحتاج إلى الغير، فإذا كان محتاجاً إلى الغير لا
صفحة 92
يكون واجب الوجود، وقد ثبت أنّ الله سبحانه غنيّ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ) (1)، فإذا ثبت تركيبه ثبت فقره، وهو ينافي الغنى الذاتي لله سبحانه.
الوجه الثاني: ينطلق وفاقاً للتقرير التالي: إمّا أن تكون الأجزاء التي تركّب منها الواجب سبحانه واجبة جميعاً, أو أن تكون ممكنة جميعاً. إذا كانت واجبة جميعاً، فإنّ مآل ذلك إلى تعدّد الآلهة، ومن المفروض أنّنا نفينا التعدّد في التوحيد الواحدي، وتقرّر لدينا أنّه سبحانه واحد لا شريك له.
أمّا إذا كانت الأجزاء ممكنة, فيلزم من ذلك أن يكون الواجب سبحانه ممكناً أيضاً، لأنّه محتاج لهذه الأجزاء الممكنة، وإذا صار ممكناً يكون محتاجاً إلى الغير، وبذلك فإنّ ما فرضناه واجباً لا يكون واجباً، بل سيكون هناك ممكن معلول لممكن آخر، وفقير معلول لفقير آخر.
تبقى الحالة الثالثة المتمثّلة في أن يكون بعض الأجزاء واجباً وبعضها ممكناً، فهذا معناه أن يرجع الأمر إلى ما عليه في الصورة الثانية تبعاً للقاعدة المعروفة التي تنصّ على أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين.
وبهذا يُثبت لنا الدليل العقلي بطلانَ التركيب بكلّ وضوح.
3ـ الدليل النقلي
تُرى ما هي الكلمة التي يدلي بها النقل قرآناً وسنّة في هذا المضمار؟ عندما نرجع إلى القرآن الكريم وإلى الروايات الواردة عن النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين وبالأخصّ الإمام أمير المؤمنين نجد أنّها جميعاً تُثبت هذه الحقيقة المتمثّلة بإثبات البساطة ونفي التركيب.
ـــــــــــ
(1) فاطر: 15.
صفحة 93
أوّلاً: البُعد القرآني
من الآيات التي تمّ الاستدلال بها لإثبات التوحيد الواحدي والتوحيد الأحدي ما ورد في سورة الإخلاص، حيث قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (1).
فهذه السورة تريد أن تثبت التوحيد الأحدي بنفي التركيب عنه سبحانه وإثبات بساطته. والقرينة على ذلك ما ورد في خاتمة السورة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). فلو كانت الأحدية في صدر السورة وخاتمتها بمعنىً واحد للزم التكرار. وما دامت هناك قاعدة تفيد أنّ التأسيس أولى من التأكيد، بمعنى أنّ مقتضى الظاهر الأوّلي لكلام المتكلّم أنّه لا يريد التأكيد إلاّ إذا قامت قرينة على ذلك، فسيكون صدر السورة بصدد نفي التركيب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) بقرينة خاتمتها (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) التي هي بصدد التعدد والكفؤ والنظير والندّ والثاني.
فبقرينة الآية الأخيرة في السورة يثبت أن صدر السورة هو بشأن نفي التركيب، ثمّ إثبات بساطة الحقّ سبحانه وتوحيده الأحدي. يعين على هذا المعنى ما ذهب إليه البحث في تاريخ النزول من أنّ السورة نزلت لردّ عقائد المسيحيين، التي تؤمن بالتركيب والتعدّد (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (2).
إذا كان الأمر كذلك يتضح أنّ السورة المباركة ناظرة إلى إثبات بعدَي التوحيد الذاتي معاً؛ الصدر لنفي التركيب، والذيل لنفي التعدّد.
في هذا المنحى سار عدد من العلماء الأعلام، ومنهم السيّد الطباطبائي
ـــــــــــ
(1) الإخلاص: 1 ـ 4.
(2) المائدة: 73.
صفحة 94
الذي يقول: «و (أحد) وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد، غير أنّ الأحد إنّما يُطلَق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً، ولذلك لا يقبل العدّ ولا يدخل في العدد، بخلاف الواحد فإنّ كلّ واحد له ثان وثالث إمّا خارجاً وإمّا ذهناً بتوهّم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً» (1).
كما يقول عن الآيتين في خاتمة السورة: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ): «وتنفيان أن يكون له كفؤ يعدله في ذاته أو في فعله وهو الإيجاد والتدبير، ولم يقل أحد من الملّيين وغيرهم بالكفؤ الذاتي بأن يقول بتعدّد واجب الوجود عزّ اسمه» (2) إذ في الجملة الأخيرة إشارة إلى التعدّد الذي تنفيه السورة، علاوة على نفيها للتركيب لتثبت التوحيد الذاتي بوجهيه الواحدي والأحدي.
المكانة التوحيدية لسورة الإخلاص
قد تعود كثرة الأحاديث المرويّة عن الفريقين في أهمّية السورة وأنّها تعدل «ثلث القرآن» (3) إلى المكانة التي تحظى بها توحيدياً، حيث ورد في الحديث الشريف عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد، فقال: «كلّ من قرأ (قل هو الله أحد) وآمن بها فقد عرف التوحيد» (4).
والرائع في حقّ هذه السورة ما جاء عن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليهما السلام، فعن عاصم بن حميد، قال: سُئل علي بن الحسين عليهما السلام عن
ـــــــــــ
(1) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج20، ص387.
(2) الميزان في تفسير القرآن ، ج20، ص391.
(3) في الحديث الشريف: «مَن قرأ قل هو الله أحد مرّة واحدة فكأنما قرأ ثلث القرآن» توحيد الصدوق، مصدر سابق، ص95.
(4) الأصول من الكافي، مصدر سابق، ج1، ص91، الحديث الرابع.
صفحة 95
التوحيد، فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك» (1).
من المفيد أن نشير إلى أنّ الآيات الستّ من سورة الحديد التي عناها الحديث الشريف، تتضمّن من بين ما تتضمّن، قوله سبحانه: (هُوَالأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (2) مع ما تنطوي عليه هذه الآية الكريمة من معانٍ توحيدية دقيقة مرّت الإشارة لبعضها في البحث السابق.
لقد ذُكرت وجوه متعدّدة لتعليل ما جاء في الحديث الشريف من أنّ هذه السورة تعدل قراءتها ثلث القرآن، أعدلها ـ كما يقول السيد الطباطبائي ـ أنّ ما في القرآن من معارف ينتهي بالتحليل إلى الأصول الثلاثة المتمثّلة بالتوحيد والنبوّة والمعاد، والسورة تتضمّن واحداً من الثلاثة وهو التوحيد (3).
هكذا يمكن استلهام التوحيد الذاتي ببُعديه الواحدي والأحدي من هذه السورة القرآنية على قصرها. وإذ نعرف أنّ الأساس في التوحيد يقوم على التوحيد الذاتي، لأنّ التوحيد الصفاتي والتوحيد الأفعالي وما يرتبط بهما مرجعهما إليه بشقّيه، فسيتّضح لنا بعض أسباب عظمة هذه السورة وما تنطوي عليه من موقع كريم كشفت عنه الأحاديث التي جاءت بشأنها.
ثانياً: البُعد الروائي
بشأن الجانب الروائي نعود إلى سؤال الأعرابي للإمام علي عليه السلام في يوم الجمل، حينما قال له: يا أمير المؤمنين؛ أتقول إنّ الله واحد؟ فقد ذكر الإمام في
ـــــــــــ
(1) الأصول من الكافي، ج1، ص91، الحديث الثالث.
(2) الحديد: 3.
(3) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج20، ص390.
صفحة 96
جوابه: «إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: (واحد) يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد» وهذا نفي للوحدة العددية وإثبات للوحدة الحقة الحقيقية، ومن ثَمَّ فهو دليل على التوحيد الواحدي.
ثم ينتقل الإمام عليه السلام إلى الوجه الثاني الذي لا يجوز على الله سبحانه ليعبِّر عنه بقوله: «وقول القائل: (هو واحد من الناس) يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه». في هذا النصّ ينفي الإمام أمير المؤمنين التركيب ويثبت البساطة، حيث يبيّن أنّ الله سبحانه ليس مركباً من جنس وفصل، وبعبارة أوضح: من أمور مشتركة وأخرى مختصّة، كما هو الحال في الإنسان مثلاً الذي يتألّف وجوده من الحيوانية وهي عنصر مشترك مع موجودات أخرى، والناطقية التي هي عنصر يختصّ به.
وحيث ينفي حديث الإمام التعدّد والتركيب عن الله سبحانه بنفيه هذين الوجهين، يعود ليثبت له سبحانه وحدته الحقّة وبساطته، في تتمّة حديثه إلى الرجل، وهو يقول: «وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم» (1)
فبنفي هذه الأقسام وما تستتبعه من تركيب تثبت البساطة؛ إذ هو سبحانه لا ينقسم في الوجود الخارجي كما هو حال المركبات الكيميائية والعناصر المعدنية، ولا ينقسم بحسب التحليل العقلي، ولا فيما يتصوّره الإنسان من أشكال التجزئة والتبعيض.
ـــــــــــ
(1) التوحيد، مصدر سابق، ص83 ـ 84.
صفحة 97
هذا المعنى يتأكّد بنفسه في حديث النبيّ صلى الله عليه وآله مع الأعرابي الذي سأله أن يعلّمه من غرائب العلم، فما كان من النبيّ إلاّ أن أعاده إلى رأس العلم، متمثّلاً بقوله صلى الله عليه وآله: معرفة الله حقّ معرفته.
وعندما سأل الرجل: وما معرفة الله حقّ معرفته؟ وضّح له النبيّ صلى الله عليه وآله: «تعرفه بلا مثل، ولا شبه، ولا ندّ، وأنّه واحد أحد، ظاهر باطن، أوّل آخر، لا كفؤ له ولا نظير، فذلك حقّ معرفته» (1). فمعرفة مثل هذه تستلزم نفي التعددية والتركيب، وإثبات وحدته الحقّة وبساطته سبحانه.
علاوة على أنّ في الحديث نفسه ما يُستظهر منه الإشارة إلى التوحيدين الواحدي والأحدي معاً، في قوله صلى الله عليه وآله: «وأنّه واحد أحد» فهذا من موارد الافتراق في المعنى؛ لاجتماعهما في اللفظ. فما دام «واحد» و«أحد» قد اجتمعا في لفظ واحد، فإنّ في ذلك إشارة إلى أنّ المتكلِّم يريد منهما معنيين اثنين.
وممّا له دلالة على المطلوب ما جاء عن الحكيم السبزواري في شرحه لدعاء «الجوشن الكبير»، حيث كتب في بيان النصّ الكريم: «اللّهم إنّي أسألك باسمك يا أحد، يا واحد» وتوضيح المراد منه ما نصّه: «الأحدية: البساطة وانتفاء الجزء عنه، والواحدية: الفردية وعدم الشريك له» (2).
ثم يعقّب ذلك ببحث علميّ دقيق لا مجال للخوض في تفاصيله، مفاده أنّ النسبة بين الأحدية والواحدية هي العموم والخصوص من وجه. فقد يجتمعان في موجود كما في الواجب، فهو سبحانه واحد أحد «اللهم إني أسألك
ـــــــــــ
(1) التوحيد، ص284 ـ 285.
(2) شرح الأسماء أو شرح دعاء الجوشن الكبير، للحكيم المتألّه المولى هادي السبزواري (1212ـ 1289هـ)، تحقيق الدكتور نجف قلي حبيبي، منشورات جامعة طهران، طهران 1993، ص367.
صفحة 98
باسمك يا أحد، يا واحد»، وقد يفترقان، فيكون الشيء واحداً ولا يكون أحداً، يعني لا ثاني له ولكنه مركّب. كما قد يكون أحداً ولا يكون واحداً، أي له ثان ولكنه بسيط.
4 ـ الآثار والنتائج
حيث يصل البحث إلى هذه التخوم لم يبق أمامنا إلاّ أن نستعرض الآثار المترتّبة على هذا الضرب من التوحيد.
إذا ثبت أنّ توحيد الله سبحانه هو توحيد واحدي وأحدي، فسينفتح الطريق لإثبات عدد من الأمور يمكن استعراضها كما يلي:
الأمر الأوّل: إثبات التوحيد الصفاتي والأفعالي
إنَّ الأساس الذي ينهض عليه بناء التوحيد الصفاتي والأفعالي هو التوحيد الذاتي، وحيث يثبت الأخير فسيكون الطريق مفتوحاً لإثبات التوحيد الصفاتي والتوحيد الأفعالي بأقسامه المختلفة من توحيد الخالقية إلى توحيد الربوبية وتوحيد العبادة وتوحيد الحاكمية والرازقية وغير ذلك، لأنّ هذه جميعاً ستضحى نتائج للتوحيد الذاتي.
الأمر الثاني: إثبات عدم محدوديته وعدم تناهيه
إنَّ الأساس الذي تقوم عليه معارف الإلهيات بالمعنى الأخص يتمثّل بإثبات عدم محدودية الله سبحانه وأنّه ليس متناهياً.
تتألف إحدى صيغ التركيب من وجدان كمال وفقدان كمال آخر، ومثل هذا المركب يعدّه الحكيم السبزواري في كتاب شرح المنظومة، وحواشيه على كتاب الأسفار شرّ التراكيب وأسوأها، لأنّ مرجعه في التحليل أنّ مثل هذا الموجود واجد لكمال وفاقد لكمال آخر، تماماً كالإنسان الذي يتصّف ببعض
صفحة 99
الكمالات ويفقد بعضها الآخر. فلو نظرنا إلى الإنسان لرأيناه يفقد بعض الكمالات الموجودة في الحيوان نظير قوّة السمع وقوّة البصر، وقوّة بعض الإدراكات الأخرى، الأمر الذي يدفعه للاستعانة ببعض الحيوانات للتعويض عن النقص الموجود في أجهزته الجسمية والإدراكية على هذا الصعيد.
من أمثلة الحالة تفاوت الكمال العلمي، فهناك إنسان على قدر معيّن من العلم، وهناك آخر أرفع منه درجة، فيكون الأوّل فاقداً لدرجة الكمال العلمي عند الثاني، وهكذا.
لكن لمّا كان الله سبحانه بسيطاً بساطةً محضة لا مجال فيه للتركيب فسيثبت أنّه ما من كمال مفروض إلاّ وهو واجد له.
في هذا الضوء تثبت القاعدة التي يبلورها القرآن الكريم، وبمقتضاها: ما من كمال إلاّ وينسبه إلى الله سبحانه أوّلاً وبالذات، ثم ينعته لغيره بإذن منه أو بأيّ نحو آخر بحسب اختلاف التعليلات، كما سنلحظ تفصيلاً عند الحديث عن القاعدة في بحث التوحيد الأفعالي. ومردّ ذلك يعود إلى أنّ وجوده سبحانه غير متناه، وحيث يكون كذلك، فلا يمكن أن يفرض هناك وجود أو كمال وجوديّ أو حقيقة من الحقائق الكمالية إلاّ والحقّ سبحانه واجد لها.
وهذا ما يفسّر اهتمام الروايات الواردة عن النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم بهذا الجانب وعنايتهم به، كما لمسنا من خلال الأمثلة التي مرّت.
في الاتجاه ذاته نفهم ماذهب إليه السيد الطباطبائي، في قوله: «فله تعالى من كلّ كمال محضه، وإن شئت زيادة تفهّم وتفقّه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمراً متناهياً وآخر غير متناه، تجد غير المتناهي محيطاً بالمتناهي، بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أيَّ دفْع فرضتَه، بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من أركان كماله، وغير المتناهي هو القائم على
صفحة 100
نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)» (1).
على المنوال ذاته تجري القاعدة القرآنية التي يشير إليها قوله سبحانه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) (2)، لأنّ الله محيط بكلّ شيء، بظاهره وباطنه، وبأوّله وآخره: (هُوَالأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (3)، فكلّ شيء له سبحانه.
لهذا يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «داخل في الأشياء لا بممازجة، وخارج عنها لا بمزايلة». كما يقول عليه السلام: «معرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة، لا بينونة عزلة» لأنّه لو انعزل صار محدوداً، أي تنتهي رتبته الوجودية إلى حدٍّ محدود ليبدأ الوجود الآخر، حيث يلزم من ذلك المحدودية، والحقّ سبحانه غير محدود.
كيف نميّزه إذن؟ يوضِّح الإمام أمير المؤمنين أنّ ذلك يكون من خلال الصفات، حيث قوله عليه السلام: «إنه ربٌّ خالق غير مربوب مخلوق، ما تُصوّر فهو بخلافه» (4) وهذا من ثمار ثبوت البساطة المطلقة.
هناك ثمرة أخرى أسّس لها فلسفياً صدرُ الدين الشيرازي في مقولات الحكمة المتعالية. فعندما يقال إنّ الله سبحانه بسيط الحقيقة، فإنّ معنى بسيط أنّه خال من أيّ نحو من أنحاء التركيب الخارجي والعقلي وغيرها. وهذه صغرى القياس. أمّا كبراه فهي: وكلّ بسيط الحقيقة فهو تمام الأشياء، فبسيط
ـــــــــــ
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج6، ص89. والآيتان 53و45 من سورة فصّلت.
(2) الحديد: 4.
(3) الحديد: 3.
(4) الاحتجاج، الطبرسي، نقلاً من: عليّ والفلسفة الإلهية، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الثقلين الثقافية، بيروت، ص55.
ــــــــــــــــــــــــــ
صفحة 101
الحقيقة ـ إذن ـ كلّ الأشياء وتمامها وليس بشيء منها. هذه قاعدة فلسفية من أجلّ القواعد الفلسفية أرستها برهانياً مدرسة الحكمة المتعالية على يد صدر الدين الشيرازي، سيأتي مزيد توضيح لها في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث: استحالة المعرفة بالكنه
من النتائج الأخرى التي تثبت على التوحيد الذاتي ببعديه الواحدي والأحدي استحالة معرفة الله بالكنه، إذ لا يمكن أن نقف على ذاته وكنهه وحقيقته «يامن لا يعرف ما هو إلاّ هو». فحيث ثبت أنّ الله سبحانه غير متناه وما عداه متناه، فمن المحال أن يحيط المتناهي بغير المتناهي، وأنّى له ذلك!
فلو أنّ الإنسان اكتنه حقيقة شيء ووقف على كنهه فقد أحاط به، ولو كانت تلك إحاطة علمية. ولما كان الواجب سبحانه غير متناه، فمن المستحيل للإنسان أن يكتنهه، حيث لا يمكن للمتناهي ـ كما مرّ ـ أن يحيط به علماً.
وفي هذا الاتجاه راح القرآن الكريم والمأثور من حديث النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم يحذران الإنسان من الانزلاق إلى هذا الوادي السحيق؛ لما يفضي إليه من تيه وضياع وضلال.
فمن حيث القرآن وردت آيات عديدة تثبت حقيقة عدم إمكان الإحاطة به علماً، منها قوله سبحانه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (1).
وفي ردّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام على أسئلة وشبهات أبي قرّة المحدّث، أنّ الإمام احتجّ في دفع الرؤية بقوله سبحانه: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) (2)، وقوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) وآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
ـــــــــــ
(1) طه: 110.
(2) الأنعام: 103.
صفحة 102
شَيْءٌ) (1) حيث قال عليه السلام: «فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة» (2). والمعرفة التي يعنيها الحديث هي المعرفة الإحاطية. وكذا الحال إذا وقع كنهه في العقل، وإذا وقعت هويّته وذاته فيه أيضاً.
توضيح ذلك: أنّ الإحاطة على ضربين، إحاطة بصرية وإحاطة بصيرية (نسبة إلى البصيرة) تقع في القلب، والقرآن ينفي الإحاطتين كلتيهما، فأنت إذا قلت «إنّ الإنسان حيوان ناطق» فقد عرفت هويّته، ومعرفة هوية ذات الحقّ محال؛ لاستحالة الإحاطة بضربيها.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «لم يُطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته» (3)، إذ يجمع النصّ في توازن دقيق بين استحالة الإحاطة كنهاً وإمكان المعرفة في حدّها الواجب. وربما أشار بعض المفسّرين إلى استحالة المعرفة الكنهية وتحذير القرآن منها، بقول الحقّ سبحانه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (4) حيث لا يمكن لأحد أن يبلغ ذلك المقام.
من روائع كلمات أمير المؤمنين في هذا المجال، قوله عليه السلام: «فتبارك الله الذي لا يبلغه بُعد الهِمَم، ولا يناله حدس الفِطَن» (5). فربّما يمكن استشفاف أنّ قوله عليه السلام: «بُعد الهمم» له علاقة بسلوك العارف، ومن ثمّ فيه إشارة إلى البُعد العملي، حيث يسعى الإنسان إلى أن ينكشف له الحقّ وتحصل له معرفته بكنه ذاته من خلال الإشراق القلبي وعن طريق التزكية الباطنية، فيأتي هذا النصّ للإمام ليوصد الباب في هذا الاتجاه.
ـــــــــــ
(1) الشورى: 11.
(2) الأصول من الكافي، مصدر سابق، ج1، ص96.
(3) نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطية رقم 49، ص88.
(4) آل عمران: 30.
(5) نهج البلاغة، الخطبة رقم 94، ص138.
صفحة 103
وفي مقابل ذلك، يُشير قوله عليه السلام: «حدس الفطن» إلى الحدس العقلي، ليكون المعنى أنّ الطريق إلى اكتناه الذات مغلق أمام الإنسان، سواء سلك لمعرفته طريق الكشف والإشراق وتزكية الباطن أو طريق العقل والقوّة الإدراكية.
المعرفة الممكنة والمعرفة المستحيلة
لكن مرّ علينا أكثر من مرّة أنّ الإمام أمير المؤمنين نصّ في خطبته: «أوّل الدين معرفته» (1)؛ فكيف نوفّق بين هذا وبين ما نحنُ فيه من استحالة المعرفة؟ لا يعني الإمام علي عليه السلام في كلامه أنّ المعرفة الإنسانية تتعلّق بذات الحقّ سبحانه، فمعرفة الذات لا مجال لها، ولا يمكن لأحد أن يعلم ما هي «يا من لا يعلم من هو إلاّ هو».
وإذ لا يتمكن الإنسان من معرفة الذات فلا يمكنه أن يضع اسماً للذات، لأنّ وضع الاسم فرع يتأسّس على معرفة المسمّى، وما لم يستطع الإنسان أن يقف على حقيقة المسمّى فأنّى له أن يضع له اسماً!
فبِمَ تتعلّق معرفتنا إذن؟ تتعلّق بالصفات والأسماء الإلهية، وهذا ما أُمرنا به (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (2). وهذا ما تؤكّده البحوث العقلية والتفسيرية والروائية.
أجل، ذهب بعض الدارسين وأهل المعرفة إلى أنّه عندما يُشار إلى الذات الإلهية المقدّسة، فإنّما يشار إليها بالضمير «هو»، وإلاّ لا يوجد شيء آخر أمامنا يمكن الإشارة من خلاله إلى الذات.
ـــــــــــ
(1) نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة رقم 1، ص39.
(2) محمد: 19.
صفحة 104
من هنا ذهب أهل المعرفة إلى أنّ الضمير «هو» في قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (1) إشارة إلى مقام الذات، والله هو الاسم الأعظم الذي تتعلّق به المعرفة الإلهية.
أجل لا يتنافى هذا الرأي مع من يذهب إلى أنّ «هو» ضمير للشأن، إذ إنّ البحث اللغوي والأدبي شيء والبحث المضموني شيء آخر.
على هذا الأساس ندرك مغزى الأحاديث المستفيضة التي تنهى عن التكلّم في الله وفي الذات. فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام، قال: «تكلّموا في خلق الله ولا تتكلّموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً» (2). وفي رواية أخرى: «تكلّموا في كلّ شيء ولا تتكلّموا في ذات الله» (3).
وفي حديث آخر عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، قال: «دعوا التفكّر في الله، فإنّ التفكّر في الله لا يزيد إلاّ تيهاً، لأنّ الله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار ولا تبلغه الأخبار» (4) وفي الحديث تعليل النهي على أساس استحالة الإدراك عن طريق الإحاطة العلمية.
أخيراً، وفي الاتجاه ذاته يحذِّر الإمام جعفر الصادق عليه السلام من الخوض في المعرفة الكنهية ـ إذ لا معرفة في هذا المجال ـ وما يؤدّي إليه هذا المسلك الوعر من انحدار إلى هوّة التيه والضياع، حين يقول: «إيّاكم والكلام في الله، تكلّموا في عظمته ولا تكلّموا فيه، فإنّ الكلام في الله لا يزداد إلاّ تيهاً» (5).
ـــــــــــ
(1) الإخلاص: 1.
(2) الأصول من الكافي، مصدر سابق، ج1، ص92.
(3) المصدر السابق: ص92.
(4) التوحيد، مصدر سابق، ص457.
(5) المصدر السابق، ص457.
صفحة 105
الخلاصة
1 ـ تبيّن مما مرَّ أنّ للتوحيد ثلاث مراتب، هي التوحيد الذاتي، والتوحيد الصفاتي والتوحيد الأفعالي. وأنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى توحيد واحديّ وتوحيد أحديّ. معنى التوحيد الذاتي الواحدي أنّه لا ثاني لله سبحانه، وهو مرتبط بالعدد. أمّا التوحيد الذاتي الأحدي فمعناه نفي التركيب وإثبات بساطة الحقّ سبحانه، فهو مرتبط بعالم البساطة والتركيب.
2 ـ هناك ضروب مختلفة للتركيب أبرزها ستة؛ يقوم الدليل العقلي على نفيها جميعاً لإثبات بساطة الله سبحانه، كما يلتقي الدليل النقلي مع الدليل العقلي في إثبات النتيجة ذاتها عبر القرآن والسنّة.
3 ـ من النتائج الأساسية التي يفرزها البحث في التوحيد الذاتي، إثبات عدم محدودية الله سبحانه وعدم تناهيه. هذه النتيجة تتحوّل إلى أساس تشاد عليه الكثير من بناءات المعرفة التوحيدية.
كما أنّ هناك عدداً من النتائج التي تترتب على بُعدي التوحيد الذاتي كلاًّ على حدة، أو عليهما معاً، مما مرّت الإشارة إليه تفصيلاً.