لاخلاق عند الامام الصادق عليه السلام
الحب والصداقة
نرى الشيء الجميل أو الشيء الجيد فنجد في أنفسنا صدى انفعالياً لذلك الجمال أو لتلك الجودة، وهذا الشعور النفسي الذي نجده هو الاستحسان، وقد نحس في أنفسنا بعد هذا الشعور انجذاباً رفيقاً أو عنيفاً إلى ذلك الشي. وهذا الانجذاب هو المحبة، فالاستحسان انفعال النفس عند شعورها بالجمال للنفس إذا شعرت به. والمحبة هي رد ذلك الانفعال والاستحسان دعوة الجمال للنفس إذا شعرت به. والمحبة استجابة النفس لتلك الدعوة.
والمحبة في أولى درجاتها ميل إلى الشيء المرغوب، إذا كانت الرغبة فيه لا تكلفتنا ان نتحمل المشاق في تحصيله، فإذا اشتدت الرغبة إليه، وكلفتنا أن نتحمل بعض المشاق سميت "وداً " وإذا بلغت أكثر من ذلك الحد سميت "حباً " وهو أسمى درجات هذا الإحساس. والعرفانيون يتجاوزون في المحبة هذا الحد فيجعلون لها درجات أخرى متفاضلة، ولكل واحدة من هذه الدرجات مراتب متعددة.
يقول الفيلسوف: الحب ميل طبيعي إلى المحبوب الملائم، ويقول الاجتماعي: الحب صلة نفسانية متبادلة بين أليفين ورابطة متعادلة بين قلبين، ويقول العارف: الحب قوة خفية تصير المعشوق جزءاً من العاشق. وقد تحيلهما شيئاً واحداً لا يقبل التجزئة. ويقول الأديب: الحب إشراقة الروح على الروح ومصافحة القلب مع القلب.
أما الإمام الصادق (ع) فإنه يسميه الإيمان حين يقول: " وهل الإيمان إلا الحب "[30] .وقد علمنا ان الإيمان الصحيح عند الإمام (ع) هو معنى الإنسانية الكاملة. والحديث على وجازته يدلنا على منزلة عظيمة للحب في رأي الإمام الصادق (ع) ولكن علينا ان نعرف هذا الحب القدسي الذي يفسر الإمام به الإيمان.
من الأحكام التي لا تقبل التشكيك ان دوام كل عمل أو صفة يكون بمقدار ما لغاية ذلك الشيء من الدوام. والاهتمام به بمقدار ما لغايته من الأهمية. فالذي يطلب رجلاً لحاجة ينتهي طلبه إذا حصل منه على تلك الحاجة. والذي يقرأ كتابا ليفهم معناه تنتهي قراءته إذا حصل منه على الغاية, والحب أحد هذه الأشياء التي تطلب لغاياتها، وتدوم بدوامها، وتكون شريفة أو وضيعة بشرف الغاية أو ضعتها. فالذي يحب أحداً لماله ينفد حبه إذا نفد المال، والذي يحب شخصاً لغاية غير شريفة ينتهي حبه إذا حرم منها وقد ينقلب الحب بغضاً.
والإسلام دين المحبة الصادقة، والاخوة الدائمة. لا يعجبه هذا اللون المشوه من الحب، وبالأحرى هذا التدنيس لطهارة الحب. حب الشهوة الوضعية والغايات السافلة.
الحب شريف لأنه علاقة بين أرواح فيجب ان يكون شريف الخاتمة، والشريعة الإسلامية مثالية في جميع أحكامها فيجب ان تكون مثالية في حبها. على ان هذا اللون محدود الغاية فلا يلتئم مع الألفة الدائمة التي يدعو إليها دين الإسلام.
الحب هو الصلة الأولى بين العبد وبين ربه، وهو العلاقة المتينة بين الإنسان وبين دينه. فيلزم أن تكون الصلة بين المسلمين ظلاً لذلك الحب وقبساً من ذلك النور فإن " من حب الرجل دينه حبه أخاه "[31]. كما يقول الإمام الصادق عليه السلام و" من حب الشيء حبّ جميع آثاره" كما تقول الفلاسفة. وليس الحب شيئاً يكال جزافاً بالمكاييل، ولا ينشأ مصادفة من غير سبب، يحب الإنسان ربه لأنه المنعم الذي أوجده بعد العدم. ثم كمله بعد النقص وهداه من الضلالة. ولأنه الكامل المطلق الذي يجب ان يحب لأنه كامل. ويحب الإنسان دينه لأنه الطريق الذي يصل به إلى السعادة والوسيلة التي تضمن له الفوز بالخير الأعلى. ويحب الإنسان أباه لأنه سبب وجوده وهو الكافل لتربيته. ويحب المسلم أخاه المسلم أخاه لأنه عديله في الدين وشريكه في الكمال، ويحب الإنسان أخاه الإنسان لأنه مثيله في الحقوق، ونظيره في استحقاق السعادة، هكذا ينظر الدين الإسلامي إلى الحب، وهكذا يجب أن يكون، " وهل الإيمان إلا الحب " والعلاقة بين المتحابين إذا أقيمت على هذا الأساس تحطمت دونها كل غاية وسهلت في سبيلها كل وسيلة، وكانت متعادلة بينهما فيحس أحدهما لصاحبه بما يحس به الآخر لأنه صلة بين نفسين وبالأحرى بين عقلين. أما حب الشهوة فلا تكون له هذه الخاصة لأنه صلة بين غريزة وجسد والجسد لا يحس بما يحس به القلب.
على أن حب الصديق لكماله يكون أكبر لذة وأكثر اتصالاً وبقاءً، لأنها لذة عقلية. والقوه العقلية أكبر لذة أكبر لذة لأنها أقوى إدراكا وأسمى غاية. ويدلنا على هذا أنا نجد القلوب مجتمعة على حب الكمال أينما وجد وعلى تعظيم الكامل أينما حل وان فصلت بيننا وبينه عشرات القرون، فالذي يحب " عنترة " لشجاعته أو يحب " حاتما " لجوده لم يحبهما لغرض يرجع إلى قوة الغضب أو إلى قوة الشهوة، ولكنه يحبهما لأنهما متصفان بصفتين من صفات الكمال، وهو يلتذ بهذا الحب كلما خطرت هذه الناحية في قلبه.
والصداقة مادة من مواد الأخلاق، والصديق صورة ترسم للإنسان مستقبلة وتحدد له سعادته وكماله، وقد قال الشاعر العربي:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه أفكل قرين بالمقارن يقتدي
ينشأ الإنسان وتنشأ معه غريزة التأسي وحب المحاكاة، وهو يعلل بها كثيراً من أفعاله، ويبنى عليها كثيراً من عاداته. يرتكب الإنسان الجريمة لأن نظيره قد أرتكب مثلها أو أشد منها. ويعمل الإحسان لأن أمثاله يعملون ذلك. حتى الطفل فإنه يصدر كثيراً من إعماله لمجرد الاقتداء وحب المحاكاة وكم لهذه الغريزة من مظهر، وكم لها من نتيجة حسنة أو قبيحة، وبديهي أن هذه الغريزة إذا قارنت الحب والصداقة كانت أشد تأثيراً في الإنسان.
وقد أثبت التجربة ان المجاورة والاتصال يؤثران حتى في الجمادات.
كالريح آخذة مما تمر به نتناً من النتن أو طيباً من الطبيب
فمن الجدير بالإنسان ان يختار موضعاً لصداقته، لأنه يختار مادة لأخلاقه ويضع رسماً لمستقبلة وحدّاً لسعادته. من حقوق الحب على الإنسان ان يختار له موضعاً، ومن حقوق النفس ان يختار لها مهذباً. وقد قال الإمام الصادق (ع): "من لم يجتنب مصادقة الأحمق أو شك أن يتخلق بأخلاقه "[32] .وقال: " لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره "[33] وللإمام الصادق (ع) كلمات تتضمن قواعد مهمة في الصداقة نذكرها من غير تعليق:
" لا خير في صحبة من لم ير لك مثل الذي يرى لنفسه" ، "إياك ومخالطة السفلة فإن السفلة لا تؤدي إلى خير"، " أحب الأخوان على قدر التقوى"، " لا تعتد أحد حتى تغضبه ثلاث مرات "، " عليك بإخوان الصدق فإنهم عدة عند الرخاء، وجنة عند البلاء"، " صحبة عشرين سنة قرابة "، " ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تطلبن بكلمة خرجت من أخيك محملاً "، " الصفح الجميل ان لا تعاتب على الذنب، والصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى "، " لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك وأبق منها، فان ذهاب الحشمة ذهاب الحياء وبقاء الحشمة بقاء المودة "، " أحب أخواني إلى من أهدى إلى عيوبي "[34]، " إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك فإنه أثبت للمودة بينكما "[35] " أنظر قلبك فإذا أنكر صاحبك فإن أحد كما قد أحدث"[36] .