الجواهري صراع القديم والجديد في شعره
طراد الكبيسي
1- الجواهري وعمود الشعر:
إذا كان البحتري كان يقول عن نفسه في البَيْنُونة بينه وبين أبي تمام: "أبو تمام أغوص على المعاني وأنا أَقْوَمُ بعمود الشعر منه" وكان القدماء أطلقوا القول المشهور: "أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري" فإِننا يمكن أنَّ نقول أن الجواهري، جمع بين الحكمة والشعر، وفي إطار المذهب القائل آنذاك: أن الشعر من الشعور، أو لأنَّ الشعر تمثالُ الشعور، ومرآةُ النفس، وصورةُ الصور)- كما قال الشيخ محمد حسن آل كاشف الغطاء في شعر الجواهري.
وهذا يعني، أيضاً، وبالرغم من المفهوم السائد عند أشياخ ابن خلدون، أن الشاعر من يتّبع "أساليب الشعر عند العرب" أي مَنْ يقوم بعمود الشعر- حسب توصيف المرزوقي في مقدمته على (شرح الحماسة) - أي إتباع تقاليد الشعر عند العرب التي تعني في جملة ما تعنيه، أَلاّ يتجاوز الشاعرُ الاستعمالات اللغوية المُعتدّ بها عند شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. أي الابتعاد عن الغموضِ والغوصِ في الأَعماق القصيَّة، بحثاً عن الجواهر وأبكار المعاني، وانتهاج طريقة العرب في تأليف الأشعار.
أقول، بالرغم من هذا.. فإنّ أبا تمام والمتنبي، وحفيدهما، شعريّاً، الجواهري، يُعَدُّون من أهل (الحداثة) –كُلٌّ بالقياس إلى زمنه، وبالقياس إلى مفهوم القدامة في الشعر. (عمود الشعر)- بالرغم من أنَّ التحديث أو الحداثة هذه (مُحافِظةٌ) على شكل الأشكال- إن جاز القول- أي الشكل الخارجي- الإطاري- التقليدي للقصيدة: (البيتَ ذا الشطرين والوزن والقافية الموُحَّدة). أي أن حداثتهم، حداثة (جوّانية) -مُمثَّلَةً في خلخلة البنية الداخلية للشعر من خلال استحداث المعاني واستدخال ثقافة العصر، والتعبير عن ذلك بالاستعارات البعيدة، والتجنيس والمطابقة والموازاة والصور غير المألوفة.. وغير ذلك مما لم يأْلَفْهُ نظام القريض قبلهم.
وفي هذا الاعتبار، يمكن أن نقول: أَنَّ الجواهري شاعرٌ مُؤْتَلِفٌ ومُخْتَلِفٌ في الوقت نفسه. أو أَنَّ هناك "شِدَّة اختلاف في شدّة ائتلاف" على حدّ تعبير الجرجاني:
فهو مختلف، أولاً، في اتجاهين:
الأول: بالقياس إلى الشعر التقليدي في زمنه، والذي وصفه الشيخ باقر الشبيبي بأّنّه، في أوزانه وقوافيه، أُقل من الجبال وأوعر من الصخور، بينما شعر الجواهري/ والشعر مصدره الشعور الحيّ -كما قال- أَعلى من هذا القصيد.. إنّه قصائد تهزُّ الأرواح وتُثير النفوس، وحسبها أن تكون مَعْلَماً يُمْلي عليك فلسفة الحب ومعنى الوطنية ودقّة الوصف.
إنّ شاعرية الجواهري- وكما قال الشاعر علي الشرقي- مُتَّجِهةٌ إلى الجمال: جمال الجمال، وجمال الوطن، وجمال الحرية. وإنَّه لوصَّافٌ بارع.
ثانياً: والجواهري مُختَلِفٌ بالقياس إلى شعر الحداثة بعد الاختراق الذي أحدثه السيّاب والبياتي ونازك وأدونيس... من الرواد في بنية القصيدة العربية وشكلها البَصَري.
لكنّ الجواهري، مؤْتَلِفٌ في إِطار الحداثة على نهج أبي تمام والمتنبي، في أن يكون الشعر مُمثِّلاً في جوهره لروح العصر. في موضوعاته وبالصيغ التعبيرية الملائمة. أي أنه الشعرُ النمَّام عن الشعور، قال:
يا شِعْرُ نُمَّ على الشعور فكم وكم
نَمَّتْ على زُمَرِِ العواطفِ أَحْرُفُ
لقد ظلّ الجواهري شديد التمسك بالصيغة الكلاسيكية التي تتمثّل في (عمود الشعر) -ولم يخرج عن ذلك إلاّ في محاولات محدودة سنأتي على ذكرها- لكنه من جهة أُخرى راح يُنوّع الأساليب داخل الأسلوب الواحد.
2- الجواهري: أساليب في أُسلوب:
ونعني بهذا، أن القولَ القائل بأَنَّ العرب لم تعرف سوى ضرب واحد من أساليب الشعر، القصيدة (داخل إطار الشكل التقليدي) يغفل حقيقةً جوهرية، هي تنوُّعُ الأساليب داخل الأسلوب الواحد /الشكل الظاهر/ بحسب مسالك الشعراء في طُرق الشعر وبحسب تصعيد النفوس.
وبمعنى آخر، وحسب حازم القرطاجني، أَنْ يوائم الشاعرُ بين الموضوع والأسلوب الذي يُعبِّر فيه عن الموضوع. فالأسلوب في المعاني: (صورةٌ وهَيْأَة يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة من جهات غرض القول وكيفيّة الاطِّراد من أوصاف جهةٍ إلى جهةٍ..) وهكذا تتنوّع: (أساليب الشعر بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طُرق الشعر، وبحسب تصعيد النفوس فيها إلى حُزونة الخشونة أو تصويبها إلى سهولة الرِقَّة أو سلوكها مذهباً وسطاً... الخ)
وإذا رجعنا إلى الجواهري فإننا نجده، وبالرغم من التزامه بـ (عمود الشعر) بتقنياته الموروثة المعروفة- مع تنويعات شلكية -كما قلنا سنأتي عليها- كان يُنوّع أُسلوبه أو أساليبه بحسب الموضوعات والبواعث الداعية لقول الشعر: فهو مرَّة يشتدُّ ويَعْنُف، ومرَّة يَرِقُّ ويَعْذُب، وثالثة يتواسط بين العنف والرقة، ورابعة يسخر ويتهكّم، وخامسة تجده الحكيم المفكر.. الخ. وعلى سبيل المثال:
أولاً: من الأسلوب المبنيّ على العنف والشدّة، قصيدته في تأبين الشهيد عدنان المالكي:
خَلَّفْتُ غاشيةَ الخنوع ورائي
وأَتيتُ أقبسُ جمرةَ الشهداءِ
وقصيدته أو قصائدهُ: دم الشهيد، يومَ الشهيد، وأخي جعفر. وكلّها من قصائد وثبة كانون 1948. ومن أخي جعفر. قوله:
أَتعلمُ أَمْ أنتَ لا تعلمُ
بأنَّ جراحَ الضحايا فَمُ
فَمٌ ليس كالمُدَّعي قولةً
وليس كآخر يستفهمُ
يصيح على المُدْقعينَ الجياعَ
أريقوا دماءَكم تُطْعَمُوا
ثانياً: ومن الأسلوب المبنيّ على السخرية والتهكم. قصيدته (طرطرا) وهي على النمط الساخر والوزن من القصيدة الدُّبدبيّة المشهورة في العهد العباسيّ. ومنها:
إي طرطرا تطرطري
تقدَّمي تأخَّري
تشيَّعي تسنَّني
تهوَّدي تنصَّري
تكرَّدي تعرَّبي
تهاتري بالعُنْصِر
وهكذا قصيدة (تنويمة الجياع):
نامـي جياع الشعب نامي
حَرَسَتْكِ آلهة الطعامِ
نامـي فإن لم تشبعي
من يقظةٍ فمن المنامِ
نامـي على زُبْدِ الوعودِ
يُدافُ في عسل الكلامِ
ومثل ذلك قصيدته: (أطبق دجى) المشهورة.
ثالثاً: ومن الأسلوب المبنيّ على الرِقَّة والليونة، قصيدة (سلمى على المسرح)؛ ومنها:
العبي فالهوى لَعِبْ
وابعثي هِزَّةَ الطَرَبْ
مثِّلي دَوْرَكِ الجميل
على شُرْعةِ الأدبْ
أحسني نُقْلَةً وإِنْ
تَعِبَتْ هذه الرُكَبْ
رابعاً: ومن الأُسلوب المبنيّ على التواسط بين الشدّة والليونة، قصيدة (أُم عوف):
يا أُمَّ عوفٍٍ عَجيباتٌ ليالينا
يُدْنينَ أَهواءَنا القصوى ويُقصينا
في كلِّ يومٍ بلا وعيٍ ولا سببٍ
يُنْزِلْنَ ناساً على حُكْمٍ ويُعلينا
خامساً: ومن الأسلوب المبنيّ على الفِكر والقلق الوجودي، قصيدته في ذكرى الرصافي (1959).
لُغْزُ الحياةِ وحيرةُ الأَلبابِ
أَنْ يستحيلَ الفِكْرُ محضَ ترابِ
أَنْ يصبحَ القلبُ الذكيُّ مَفازةً
جرداءَ حتى من خُفوقِ سرابِ
فيمَ التحايلُ بالخلودِ، ومُلْهَمٌ
لحفيرةٍ، ومُفكِّرٌ لتبابِ
سادساً: ومن الأسلوب المبنيّ على السرد القصصي: (رباعيات- 1960) مثل (بغداد في الصباح) (قلت وقال..) (حرامي بغداد..) وقصيدة (أفروديت..) (1946) بعد قراءته قصةً للكاتب الفرنسي بيير لويس نقلها إلى العربية محمد الصاوي محمد. منها:
ثُمَّ نادتْ "جالا"
وكانت من الرقَّةِ..
كالماءِ إذْ يَهُزُّ الخيالا
من بنات "الهنودِ"
تعرفُ ما يُرضي الغواني
وما يَزينُ الجمالا!
مَنْ أتى أَمس..؟
خبّريني..!
ألا تدرينَ..؟
كلاّ.. فلستُ أُحصي الرجالا!
... ... ... الخ.
سابعاً: الأسلوب المبنيّ على الأوزان ذات الأيقاع السريع والقوافي ذات الجرس الموسيقي الأنيس. مثل قصيدته: (خَبَت للشعر أنفاس) (1954):
خَبَتْ للشعر أَنفاسُ
أَمْ اشتطَّ بكَ الياسُ؟
أم الحيُّ، وقد أَغفيْـ
ـتَ، إبلاسٌ وإِخراسُ؟
كأَنْ لم يَعترِفْ ناساً
فهل أنتَ به الناس؟
ومثل قصيدته (زوربا) (1969) المستوحاة من رواية (زوربا) وموسيقاها، وحيث يُرتّب الشاعرُ الأبياتَ، ترتيباً مُوقَّعاً على إيقاع الموسيقى. هكذا:
وارتَمَتْ من شفقٍ دامٍ
على الأرضِ جراحٌ..